هل يكبر سوبرمان؟ هل يموت مثلنا؟

السفير، إثر موت الممثل كريستوفر ريف
مات سوبرمان؟
البارحة كان كريستوفر ريف على شاشة البي بي سي يجري حوارا. كان جالسا بوجهه الجميل وراسه الحليق يحكي ويبتسم. راسه مثبت إلى الكرسي عن طرفيه وهناك آلة فوق عنقه. يبدو عاجزا تماما. يبدو عاجزا عن إكمال العبارة ما لم يصنع حركة بفكه الأسفل تشبه حركة البلع تعيد الصوت إلى حلقه. بدا عاجزا تماما. لكنني كنت اراه رجلا خارقا حقيقيا لأول مرة.
لطالما أدهشتني هذه الحكاية. سوبرمان الذي احفظ كل تفاصيل قوته الخارقة يقع عن الحصان فيصاب بشلل لا شفاء منه. شلل يجعل كل ما تحت العنق عاجزا.
هذا رجل كنت اقرأ مجلاته المصورة بحب لا مثيل له. كان يقوم بمغامرات لا تقف عند العبارة التقليدية مثل "هذا طائر، هذه طائرة، هذا سوبرمان". العبارة التي كان يقف تحتها أناس يشيرون إلى أعلى. لا. مدمنو المجلة لا يقفون عند مثل هذه الكليشيهات. كنت أغوص في التفاصيل. لم اسأل نفسي قط لماذا يتعرض سوبرمان لكل هذه المتاعب في كل عدد مصور مع أنه سوبرمان. كان الرسام قادرا على إقناعي كل مرة بأن شريرا إكتشف طريقة للوصول إلى نقاط ضعف الرجل الآتي من كوكب آخر ليحمي مدينة مور المحظوظة. وكان سوبرمان يعود فيتغلب على الشرير. كانت المجلة تصدر إسبوعيا وكنت أنتظرها لا لأقرأ عن مغامرات سوبرمان فحسب بل عن نبيل فوزي وطرقه في إخفاء هويته الجبارة عن رنده والمصور نديم حلمي ورئيس تحرير الكوكب اليومي الغاضب دوما. لم يكن في طيرانه ونظره الخارق للجدران ونفسه الجبار ما يغريني لأحب أن أكون مثله. إصراره على العيش في شخصيتين كان أمرا رائعا. وكنت دائما اشعر بالفرح حين يقدر نبيل فوزي على إنجاز أمر ما من دون تدخل سوبرمان في ما يقوم به. لكنني، حين كنت أعجز عن القيام بما اريد القيام به، كنت ألجأ إلى أن أن أحلم بأنني سوبرمان القادر على اي شيء.. كنت اشعر أنني نبيل فوزي الضعيف وأحلم بأنني سوبرمان أحيانا.
لطالما أدهشتني حكاية سوبرمان. إختار أخي أن نجلس في المقعد الأول في السينما حين ذهبنا لمشاهدة سوبرمان. كانت الصالة فارغة ومع ذلك جلسنا في المقعد الأول. كنت بالطبع ممنونا لأخي الذي أخذني معه لأشاهد الفيلم. كنت ممنونا له اصلا لأنه في مرة جاء ليطلب مني أن أتوقف عن شراء مجلة "سامر" وأن أشتري من الآن فصاعدا مجلة سوبرمان لأنني صرت "كبيرا". في المقعد الأول بدا سوبرمان بحجم السماء. كنت مأخوذا به. كنت غير مصدق أن شخصياتي المصورة التي تخرج الدوائر من فوق رؤوسها تتحرك الآن أمامي. إفتقدت شيئا واحدا: في المجلات كنا نقرأ الكلام من خلال الدوائر فوق الرؤوس. وهناك إختلاف في الشكل بين دوائر الكلام المسموع وبين دوائر التفكير. في الفيلم لم أكن قادرا على قراءة أفكار سوبرمان. ولم يكن هناك أصوات مكتوبة مثل بوووم! أو تاااك! كل هذا كان مفقودا من الفيلم، ومع ذلك فقد كان أحلى من المجلات. صورة البطل لم تعد جامدة مرسومة في ذهني. صارت متحركة. وصار كريستوفر ريف هو سوبرمان ونبيل فوزي.. أو كلارك كنت في نسخته الأميركية.
ثم كبرت فاصبت بعدوى التذاكي. لم يعد سوبرمان بطلا لنا جميعا. صار بطلا أميركيا إخترع في الثلاثينات لرفع معنويات شعب إنهار تحت وطأة إنهيار 1929 الإقتصادي في الولايات المتحدة الأميركية.. وإنتبهت لأول مرة أن ألوان ثوبه هي نفسها ألوان العلم الأميركي. وبلغ التذاكي مرحلة لا بأس بها حين صار سوبرمان هو رمز الأميركي الجبار الذي يدافع عن أميركا ضد الخطر الخارجي الشيوعي. وبلغ التذاكي مرحلة لا تطاق حين إقتنعت لفترة أن في هذه الشخصية ما يرمز إلى الصهيونية. صرت أكرهه.. ثم نسيته لأن المجلة لم تعد تصدر ولأنني كبرت على مجلات الأطفال وعلى أفلام سوبرمان معا. ثم نسيته إلى أن وقعت المفارقة المخيفة: مؤدي دور الشخصية الجبارة وقع عن حصان وكانت الوقوع كافيا لإلغاء الإحساس بكل ما تحت العنق. سوبرمان صار مشلولا.
حين تقع صدفة كهذه، فلا شك أنها تتمتع بحس عال بالسخرية السوداء. لكن ليس سوبرمان هو من وقع عن الحصان، وليس نبيل فوزي. من وقع هو ممثل أميركي إسمه كريستوفر ريف. ليس سوبرمان هو من اصيب بالعجز. الممثل هو الذي اصيب به. فجأة إنتبهت أنني أعرف كل شيء عن حياة سوبرمان. اعرف والده الأصلي الذي أنقذ طفله وحده من إنفجار أتى على كوكب بكامله. اعرف والديه بالتبني وحتى أنني أعرف مغامراته عندما كان فتى جبارا. لكنني أجهل كريستوفر ريف تماما. لم اسأل نفسي كيف يكمل رجل مثله ما تبقى من حياته. ظننت أنه إنتهى. وعدت فرأيته مرتين. مرة حين فتح الستار في حفل توزيع جوائز الأوسكار فإذا بالجمهور الهائل يفاجأ بالرجل الجالس على مقعده ويظل التصفيق مستمرا لأكثر من عشر دقائق والكثير من الممثلات يبكين لشدة التأثر. كانت صورته مؤثرة بالطبع. تستدعي خليطا من الحب المشوب بشفقة لا أتمناهما لنفسي. المرة الثانية كانت خبرا في الصحف. خلال نقله من مكان إلى آخر، اصيب كريستوفر ريف بكسر في يده. ولم يعلم بإصابته هذه، إلا بعدما لاحظ التورم الهائل في ساعده. كان الخبر حزينا. سوبرمان لا يشعر بالألم لكن كريستوفر عاجز عن الشعور بالألم. الصدفة الساخرة بسوداوية مرة ثانية. المفارقة الحزينة.
ليل امس الثلاثاء صادفته على شاشة البي بي سي. كان مبتسما ينتقد بشدة حرب بوش على العراق. لم يكن تافها للحظة. كان متقد العينين متهكما يحمل لواء قضية إعاقته. كان يعاني صعوبة صغيرة في النطق لكنه كان واضح الأفكار هادئا بما لا يقاس. حين أعاده محاوره إلى المقارنة بين ما هو عليه وبين سوبرمان الذي كانه. قال إنه لا يشعر بأي عجز.. هناك الكثر ممن أصحاء ولا يملكون اي تقدير لأنفسهم وهناك العاجز عن اللحاق بحلمه حتى النهاية. بدا كريستوفر ريف واثقا.. ولم أملك إلا ان اشعر أنه معافى تماما، وأوقى من الكثيرين. كان رجلا جبارا.
كنت افكر، إلى متى تصمد أعضاؤه الداخلية. قلبه ورئتاه وغيرهما. تمنيت له البقاء طويلا. لم أكن أعلم أن البي بي سي تبث المقابلة المعادة لأن صاحبها خانه قلبه فمات. السخرية السوداء الخبيثة، من جديد.
مات سوبرمان؟ لا. مات كريستوفر ريف. كم تكون الصدف قاتلة أحيانا. وكم تكون ساخرة وعبثية.
لم أفكر يوما بمصير سوبرمان. هل يكبر سوبرمان؟ هل يموت مثلنا؟ ماذا لو أنه لا يموت؟ هل هناك عجز أشد من العجز عن الموت؟

ساعة من الكتابة